المقدمة
تعريف النسخ:
النسخ لغة: الرفع والإزالة. ومنه يقال: نسخ الكتاب. أي: رفع منه إلى غيره. ونسخت الشمس الظل: أزالته.
قال الزجاج: "النسخ في اللغة: إبطال شيء وإقامة آخر مقامه، تقول العرب: نسخَت الشمس الظل: إذا أذهبته وحلت محله"(1). ومثاله : آية: {إنا
كنا نستنسخ ما كنتم تعملون}. [الجاثية/ 29].
كما يطلق على إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الأثر(2)، ومثاله: آية: {ما ننسخ من آية أوننسها نأت بخير منها أو
مثلها}. [البقرة/ 106].
أما اصطلاحا: فقد اختلف المفسرون والأصوليون في تعريفه، ولعل تعريفه المستقر اصطلاحا أول من أظهره هو الإمام الشافعي في "الأم"، ولم يكن
مطردا قبله وإن كان موجودا(3).
وحدُّه عند حذاق أهل السنة: الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه(4).
ومجموع ما يمكن أن يعرف به أنه: رفع حكم شرعي عملي جزئي، ثبت بالنص بحكم شرعي عملي جزئي ثبت بالنص وورد على خلافه، متأخر عنه في وقت تشريعه، ليس متصلا به(5).
أما مواضيعه وصوره فقد لخصها الإمام ابن عطية رحمه الله تعالى بقوله: "وصور النسخ تختلف؛ فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين".
"وقد ينسخ الأخف إلى الأثقل؛ كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان".
"وقد ينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة. كالقبلة. وقد ينسخ الشيء لا إلى بدل؛ كصدقة النجوى"(6).
مشروعية النسخ:والنسخ جائز على الله تعالى عقلا؛ لأنه ليس يلزم عنه محال (البداء مثلا)، ولا تغيير صفة من صفات الله (العلم الخالي عن الشك مثلا)، وليست
الأوامر معلقة بالإرادة فيلزم من النسخ أن الإرادة تبدلت، ولا النسخ لطرو علم، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول، ويعلم نسخه
له بالثاني(7).
فقد وردت دلائل النسخ في الكتاب والسنة؛
فمن الكتاب الكريم: قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}. [البقرة/ 106].
وقوله تعالى: {وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما يُنزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت
الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين}. [النحل/ 101، 102].
وقوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}. [الرعد/ 39]. وصح عن عكرمة مولى ابن عباس قال: "{يمحو الله ما يشاء ويثبت}
قال: ينسخ الآية بالآية فترفع، {وعنده أم الكتاب}: أصل الكتاب"(
.
وقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آيتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا
ما يوحى إلي}. [يونس/ 15]. ودلالة هذه الآية على المقصود في قوله: {ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي}..الآية، ففيها برهان على أن الله
عز وجل هو الذي يبدل الآية بالآية، لا سبيل إلى ذلك إلا بوحيه وتنزيله.
ومن السنة: تضافرت الروايات الثابتة من جهة النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن النسخ قد وقع لبعض القرآن والأحكام المنزلة كما سيأتي
التمثيل له بطائفة منه.
وتواتر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النسخ والقول به.
كما ذهب إلى القول به عامة أئمة الإسلام من السلف والخلف، إلى أن قال ابن الجوزي: "انعقد إجماع العلماء على هذا، إلا أنه قد شذ من لا يُلتفت إليه"(9).
قال أبو جعفر ابن النحّاس: "من المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ. وكابر العيان، واتبع غير سبيل المؤمنين"(10).
ورأى بعض العلماء أنه: لم يخالف في ثبوت النسخ أحد من أهل الإسلام، وأن ما نُسب إلى بعض المتأخرين فهو – على ندرته، كما أفتى به أبو مسلم
الأصفهاني المعتزلي – خلاف منهم في اللفظ لا المعنى(11).
وقال جدنا الإمام محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي الكتاني رحمه الله في تفسيره: "وأنكره – النسخ – في القرآن أبو مسلم الأصفهاني المفسر،
وقد تعسف في الأجوبة عما وقع فيه؛ كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكمدة العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر. قال ابن كثير: وقوله
ضعيف مردود".